الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
قوله: (بَدْء الأذان)، وهو كقوله: بَدْء الوحي، وقد مرَّ الكلام في تحقيق معناه. {هُزُواً وَلَعِباً} (المائدة: 58) (هنسى أوركهيل). قوله: ({إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ})... إلخ (الجمعة: 9). واعلم أني متردِّدٌ في أذان يوم الجمعة أنه كان بهذه الكلمات، أو بطريقٍ آخر، لأن أول ما دَخَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في المدينة صلَّى الجمعة في بني سَالِم. وشرعية الأذان وإن كانت في السنة الأولى، لكنها بُعَيْد هذه الجمعة لمَّا شَاوَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أصحابَهُ، ثم كان من أمرهم ما كان. واعلم أن الصلوات وإن صُلِّيَت بمكة، إلا أنهم لم يكونوا في مَكْنَةٍ من تشهيرها، فلمَّا دَخَلُوا المدينة واطمأنُّوا بها، شَاوَرُوا لتشهيرها، حتى نَقَلَ عبد الله بن زيد رؤياه. وذكر المحدِّثُون أنه رأى مثلَها آخرون أيضًا، إلا أن عبد الله بن زَيْد لمَّا سَبَقَ برؤياه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم نُسِب إليه، وممَّن رأى مثلَه عمرُ رضي الله عنه، غير أنه لمَّا رأى عبد الله بن زيد سَبَقَ به لم يَقُصَّها على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم حتى سَمِعَ التأذين. وما في بعض الرِّوايات: «فقال عمر رضي الله عنه: أَوَلا تبعثون رجلا يُنَادي بالصلاة، فقال صلى الله عليه وسلّم يا بلال قُمْ فَنادِ»... إلخ، فإنه يَدُلُّ على أن بَدْء الأذان كان بقول عمر رضي الله، فأجاب عنه الحافظ رحمه الله: أن هذا الأذان لم يكن بالكلمات المعروفة، بل أراد به مُطْلَق الإعلام. وثَبَتَ عن بلال رضي الله عنه: أنه كان ينادي بالصلاة جامعة إلى أيام، حتى رأى عبد الله بن زَيْد رُؤْيَاه، وحينئذٍ شُرِعَ الأذان المعروف. وأيَّدَه بأثرين، وَوَجَدْتُ لهما مُتَابِعَا آخر. فهذا الشَّرْحُ هو المختار عندي، وإن نَازَع فيه العَيْنِي رحمه الله تعالى. 603- قوله: (فَأُمِرَ بلالٌ)... إلخ، هكذا يُرْوَى بصيغة المجهول في جميع الطُّرُق. وأراد الحافظ رحمه الله أن يعيِّن الفاعلَ والآمرَ مَنْ هو؟ فأتي بروايةٍ تَدُلُّ على أنه النبي صلى الله عليه وسلّم قلت: وعلَّلها أبو حاتم، وقال: إن هذا اللفظ وَهْمٌ، فتفكَّرْتُ فيه إلى سنين حتى تبيَّن لي حقيقةَ الحال، وهو: أن أنسًا رضي الله عنه لم يكن حاضرًا عند أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بلالا رضي الله عنه بالشافعية والوِتْرِيّة، وإنما رآه فيما بعد يُوتِرُ ويُشْفِع في أذانه، فَحُمِلَ على أنه لا يمكن إلا أن يكون فيه عنده أمرٌ من جهة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فلفَّ الفاعل لهذا. ولو حَضَرَ عند أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بلالا رضي الله عنه وشاهده، لأَسْنَدَ إليه البَتَّة، ولكنه لمَّا لم يشاهده يأمره، وإنما هو أمرٌ فَهِمَه من عند نفسه وإن كان صوابًا، احتاط فيه، وأحبَّ أن لا يَنْسِبَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ما لم يشاهده به، فأتى بالمجهول لهذا./ والغرض من هذا التحقيق أنه لو أَظْهَر الفاعل، لكان دليلا صريحًا على أن أذانَ بلال رضي الله عنه وإقامتِهِ، كان على أذان الملك النَّازِلِ من السماء وإِقَامتِهِ لكونه عِقِيْبَه بِأَمْرِه. ولمَّا لم تكن عنده مشاهدة بأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلّم إذ ذاك صراحةً، وإنما شاهده يؤذِّنُ ويقيم فيما بعده بزمنٍ، فحكاه كما شاهده، أمكن أن يكونَ على خلاف شاكلته أيضًا. تَرْجِيْعُ الأَذَانِ وإِفْرَادُ الإِقَامَةِ واعلم أن الكلامَ في الأذان في موضعين: الأول في كلماته، والثاني في صفته. وهي عندنا: خمسةَ عشرَ كلمةً بتربيع التكبير وحَذْفِ التَّرْجِيع، وعند الشافعية رحمهم الله تعالى: تسعةَ عشرَ كلمةً مع التربيع والتَّرْجِيع، وعند مالك رحمه الله: سبعةَ عشرَ مع تَثْنِيَة التكبير وترجيح الشهادتين. ويُرْوَى تثنية التكبير عن أبي يوسف رضي الله عنه أيضًا، كما في «الدُّرِّ المختار». قلت: أمّا تَثْنِيَة التكبير، فقد رُوِيَ عن أبي يوسف كما عَلِمْتَ. وأمَّا التَّرْجِيع، فصرَّح صاحبُ «البحر» أنه ليس بسنةٍ ولا مكروهٍ، وبه أُفْتِي. وفي «ملتقى الأبحر»: أنه مكروهٌ، والصواب كما في «البحر». والتَّرْجِيْعُ عبارة عن خَفْضِ الشهادتين مرَّةً، ورفعها أخرى. وأمَّا التَّرْجِيْعُ بمعنى تَرْجِيع الصوت كصوت الغناء، فإنه لحنٌ ممنوعٌ، ولا شكَّ أن الأذانَ بمكة كان بالتَّرْجِيع حتى تسلسل إلى زمان الشافعي رحمه الله تعالى، فاختاره لهذا، فلا يمكن إنكاره، ولا يُسْتَحْسَن تأويله، كيف، وقد كان يُنَادَى بهِ على رؤوس المنائر والمنابر، فلا خلاف فيه عند التحقيق إلا في الأفضلية، وإن كان التأويل أيضًا ممكنًا، ذكره الطَّحَاويُّ، وصاحب «الهداية»، وابنُ الجوزي بثلاث عبارات، ومآلها إلى أمرٍ واحدٍ، فإن شِئْتَ، فارْجِع إليه. قال عامة الحنفية: إن حُجَّتَنا في تَرْك التَّرْجيع: أذان بلال رضي الله عنه، وفي شفع الإِقامة: إقامة أبي مَحْذُورَة. قلت: والأجودُ عندي ما عبَّر به صاحب «الهداية»: أن حُجَّتَنا أذان المَلَك النازل من السماء وإقامته، وما في بعض طُرُقه من الإِيتار يُحْمَلُ على الاختصار ولا بُدَّ، فإنه قد ثَبَتَ عنه الشَّفْعُ، وذلك لأنه الأصلُ في الباب. نعم، ولنا أذان بلال أيضًا، فإنه أذَّن بمحضر النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في مسجده إلى عشر سنين بلا تَرْجِيع، وذلك هو أذانه بعدما رَجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من فتح مكة شرَّفها الله تعالى، وقد كان علَّم هناك أبا مَحْذُوْرَة التَّرْجِيع، فلو كان التَّرْجِيعُ أفضل لعلَّمه بلالا رضي الله عنه أيضًا، ولكنه تَرَكَ الأَمرَ على ما كان، ولم يُحْدِث في أذانه شيئًا جديدًا، فَعَلِمْنا أن السنةَ في الأذان هي التركُ، ولعلَّه كان بمكة لكونه أليق بحالهم، إذ كان المسلمون لا يَقْدِرُون بها أن يؤدُّوا صلواتهم جِهَارًا، فكيف بالنداء؟ فلمَّا فَتَحَ اللَّهُ مكةَ نَاسَبَ أن يُعْلِنَ بالشهادتين جِهَارًا ومِرَارًا ليُعْلَمَ أن الزمانَ قد انْقَلَبَ إلى هيئته بالأمس، فاسْتَحْسَنَ فيها التَّرْجِيعَ لهذا. ولو كان التَّرْجِيعُ من سنَّة نفس الأذان لَمَا تركه في مسجده أبدًا، لا سِيَّمَا بعدما أَلْقَاه على أبي مَحْذُورَة وعلَّمه، ولكنه استمرَّ العملُ في مسجده على الترك. وخَرَجَ منه أصلٌ مهمٌ، وهو: أن الشيءَ الوجوديَّ قد يكون من جِنْسِ العبادات كالشهادتين، ثم قد يترجَّح تركه على فِعْلِهِ، ولا يتأتَّى فيه أن يُقَال: إن الوجوديَّ عبادةٌ، فَتَرْكُه تَرْكٌ للعبادة، فلا يكون إلا مفضولا كما رأيت في التَّرْجِيع، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم رَجَّحَ التَّرْكَ. ونحوه أقول في رفع اليدين: إنه وإن كان شيئًا وجوديًا، ونَقَلُوا في فضائلِهِ أشياء، إلا أنه يمكن أن يترجَّح تركه كترك التَّرْجِيع، فلا يُقَال: إن تركَ الرفع كيف يكون راجحًا مع كونه ترك عبادة؟ والسرُّ فيه: أن الفَضْلَ إنما هو فيما استمرَّ عليه عملُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أو انتهى إليه سواء كان وُجُوديًا أو عدميًا، فإن الانتهاءَ عند النهيِ عبادةٌ كالائتمار عند الأمر، مع أنه وَرَدَ عن أبي مَحْذُورة التركُ أيضًا، والكلامُ فيه مُطْنَبٌ، تركناه لانجلاء ترجيح الترك عند المصنِّف. وأما صفته: فسُنَّ الوقف فيه على كلمة كلمة، غير أن التكبيرَ مرتين بمنزلة كلمةٍ واحدةٍ. والمراد من الوقف: هو الاصطلاحي، والمأثور في كلماته سكون أواخرها. وعن المُبَرَّد: الله أكبر- بفتح الراء أيضًا- ولا تُسَاعِدُه الرواية. ثم هذا الوقف تَرَسُّل، أي أداء كل كلمةٍ في نَفَسٍ غير التكبير هو سنةُ الأذان، فلو حَدَرَ فيه وجمع بين كلمتي الأذان، اختلف فيه المشائخ: وفي «قاضيخان»: أنه يعيده، وهو المختار عندي. وفي عامة كُتُبنا عدم الإِعادة، ثم إن محمدًا رحمه الله تعالى كَشَفَ عن معنى الترسُّل حين ناظر أهل المدينة في تثنية التكبير، فقال: إن المراد بها التثنية في النَّفَس دون الكلمات. والحَدْرُ: أن يَجْمَعَ بين الكلمتين في نَفَسٍ، فَيَجْمَعُ التكبير أربع مراتٍ في نَفَسٍ، ثم صَرَّح أن خلافَه خلافُ السُّنة. قلت: وبه يُشْرَحُ قوله صلى الله عليه وسلّم «وأن يُوتِرَ الإِقامة»، أي الإيتار في النَّفَسِ والصوتِ، لا في الكلمات، إلا أنه يَخْدِشُهُ الاستثناء إلا الإِقامةَ، كما في بعض الروايات. وحينئذٍ يَلْزَمُ أن تكونَ السُّنةُ في لفظ: «قد قامت الصلاة»: أن يتلفَّظَ به في نَفَسَيْن، وليس كذلك، ولم يتوجَّه إلى جوابه أحدٌ. قلت: والجواب عندي: أنه ليس باستثناء مما يُفْهَمُ من الظاهر، بل هو استثناء من مفهوم الكلام، وهو أنه لا فرقَ بين كلمات الأذان والإِقامة إلا بالشَّفْعِيَّة والوِتْرِيَّة غير: «قد قامت الصلاة»، فإنه ليس في الأذان. فالاستثناء مما يُفْهَمُ من الاتحاد بين كلماتهما، على أن المالكية حَكمُوا عليه بالإِدراج، والله تعالى أعلم بالصواب. بقيت الإقامة، ففيها أيضًا خِلافٌ، فقال الإمامُ الأَعظمُ: إن كلماتها مثل الأذان، وقالت الثلاثةُ: بالإيتار فيها إلا بقوله: قد قَامَت الصلاةُ، وعند مالك رحمه الله تعالى: الإِقامة أيضًا مرةً. فينبغي عند مالك رحمه الله تعالى: عشر كلمات، وعند الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى: إحدى عشر كلمة، وعندنا: سبعة عشر كلمة. ولنا فيه ما رُوي عن أبي مَحْذُورَة، فإنه كان يُقِيْمُ مَثْنَى مَثْنَى. وكذلك كانت إقامة المَلَك عند أبي داود. وما في بعض طُرُقه من الإفراد، فيُحْمَل على أنه إحالةٌ على المعهود، ولا بُدَّ، لأنه واقعةٌ واحدةٌ. وطريقُ الاختلاف مسلوكٌ كما عند مسلم عن عمر رضي الله عنه في جواب الأذان، وهو محمولٌ على الاختصار عندهم جميعًا، وهذه صورته: عن جدِّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا قال المؤذنُ: الله أكبر الله أكبر، قال أحدُكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله، قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهدُ أن محمدًا رسول الله، قال: أشهدُ أن محمدًا رسول الله»، وهكذا إلى آخر الأذان بإفراد الكلمات. على أنه أخرج الطَّحَاوِيُّ عن بلال التَّثْنِيَة في الإِقامة أيضًا، وأقرَّ به الشيخُ تقي الدين ابن دقيق العيد، ورَاجِعْ له «تخريج الهداية» للزَّيْلَعِي رحمه الله تعالى. قال الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى: ادَّعى الطَّحَاويُّ التواترَ في تَثْنِيَة الإِقامة عن بلال رضي الله عنه. قلت: ولم أجده في «معاني الآثار»، نعم يُسْتَفَاد منه التواتر على ترك التَّرْجِيع، فيُمْكِن أن يكون قد اختلط عليه، فكان التواترُ بترك التَّرْجِيع، فَنَقَلَهُ في تَثْنِيَة الإِقامة، إلا أن يكون في تصنيفٍ آخر له غير «معاني الآثار»، فإن الطحاويَّ كثيرُ التصانيف، وأكبرُ ظني أنه في ترك التَّرْجِيع، والله تعالى أعلم. وقال الشيخ نور الدين الطرابلسي- وهو متأخِّرٌ عن الشيخ ابن الهُمام رحمه الله تعالى : إن الإيتارَ كان بيانًا للجواز، فدلَّ كلامُهُ على جواز الإيتار عندنا، ولم أجد التصريحَ به في كلام أحدٍ من الحنفية غير ما صرَّح به الشيخ المذكور في ذيل كلامه. وهذا أيضًا ليس في صورة المسألة، بل في سِيَاق الجواب، والبخاري اختار أذانَ الحنفية وإقامة الشافعية رحمهم الله تعالى. وحاصل الكلام: أن بلالا رضي الله عنه لم يَثْبُت عنه الترجيع في الأذان، وكذلك المَلَك النازل من السماء، نعم ثَبَتَ في أذان أبي مَحْذُورة، فلا بدَّ أن يُقَرَّ بالأمرين، أي الترجيع وعدمه، ويجري الكلامُ في الاختيار فقط. ومَنْ أراد منَّا نفي التَّرْجِيع رأسًا، فقد تَطَاوَل وخَرَجَ عن حِمَى الحق، فإنه ثابتٌ بطُرُقٍ لا مَرَدَّ لها. بقيت الإِقامةُ، فهي عند أبي مَحْذُورة والمَلَكِ النازل: مَثْنَى مَثْنَى، وعند بلال بالإِيتار، وثَبَتَ عنه مَثْنَى أيضًا. هذا حال الأحاديث ممَّا هو على رسم الحسن أو الصحيح، أمَّا الضِّعَاف، ففيها اختلافٌ. وبالجملة لم يَسْنَحْ لي ترجيح التثنية بَعْدُ مع ثبوت كلا الأمرين قَطْعَا.
608- (قوله:) (له ضُرَاط)، وفي بعض الألفاظ: «له حُصَاص»، وهو قبض الأذنين كما يَقْبِضُ الحمار. لا يُقَال: ما بالُ الشيطان يَفِرُّ من الأذان ولا يَفِرُّ من الصلاة، حتى يَخْطُرَ بين المرء ونفسه مع كونها أفضل؟ قلتُ: وهذا من باب الخصائص، فللأذان خواصٌّ، كما إن للصلاة خواصٌّ أخرى تَلِيقُ بشأنها. ولعلَّ الوجهَ أن الأذانَ يُبْنَى على الإِعلان والصَّدْع بالشهادتين، فلا يتحمَّله الشيطان، أمَّا الصلاة فمناجاةٌ مع ربه، فحقيقةُ الصلاة وإن جَلَت إلا أنها ليست بحيث لا يمكن للشيطان تحمُّلها، بخلاف حقيقة الأذان، فإنها ممَّا لا يستطيع أن يتحمَّلها الشيطان. فهذا الفرق يُبْنَى على تَغَايُرِ الحقيقتين لا على الفضل. على أنه وَرَدَ في الأحاديث: «إنَّ المؤذِّن يَشْهَدُ له كل رَطِبٍ وَيَابسٍ يوم القيامة»، وهذا اللعين لا يحب أن يَشْهَد لأحدٍ من المؤمنين. ونَقَل الحافظُ ابن حَجَر رحمه الله تعالى فيه حكايةً في مناقب الإمام الأعظم رحمه الله تعالى، فقال: ومن ثَمَّ اسْتَنْبَطَ أبو حنيفة رحمه الله تعالى للذي شَكَا إليه أنه دَفَنَ مالا، ثم لم يهتدِ لمكانه: أن يُصَلِّي ويَحْرِصَ أن لا يحدِّث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل، فَذَكَر مكان المال في الحال. انتهى. قلت: ما لك يا ابن حَجَر، فإنك تأتي بمناقب الإمام في مثل هذه الأمور، فإذا حَمِيَ وطيسُ المسائل تُعْرِضُ عنه كشحًا. 608- (قوله:) (ثُوِّب) ويمكن عندي أن يكونَ التثويبُ مأخوذًا من الثَّوْبِ على عادتهم في الجاهلية، فإنهم كانوا يحرِّكُون ثيابهم على طَلَلٍ عند مهيعة، ثم اسْتُعْمِل في مطلق الإعلام. وفي عُرْف الفقهاء هو الإعلام بين الأذان والإقامة، وهذا مختلِف في البلاد والزمان، وأجازه أبو يوسف رحمه الله تعالى للقضاة، ومن ازدحمت عليه المسائل.
608- (قوله:) (سَمْحًا): يعني بدون لَحْنٍ وترجيعٍ في الصوت (سادى أورردان). وغَرَضُ المصنِّف رحمه الله تعالى أنه يرفعُ صَوْتَه، ويَجْتَنِبُ عن اللحن. 609- (قوله:) (فارفع صوتك): يُشِيرُ إلى دَفْعِ توهُّم أنه لا حاجةَ إلى رفع الصوت في الصَّحَارِي، فعند مالك رحمه الله تعالى في «موطئه»: «من أذَّن في البادية، ثم أقام وصلَّى، يُصَلِّي خلفه الملائكةُ كأمثال الجبال»- بالمعنى- وعند أبي داود في باب فضل المشي إلى الصلاة، عن أبي سعد الخُدْرِي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «الصلاةُ في جماعةٍ تَعْدِلُ خمسًا وعشرين صلاةً، فإذا صلاها في فلاةٍ، فأتمَّ ركوعها وسجودَها بَلَغَتْ خمسين صلاةً». انتهى. واعلم أن فضيلةَ الجماعة أمرٌ مستمرٌّ، بخلاف الصلاة في الفلاة، فإنه قد يتَّفقُ له، فراعِ هذين البابين، فتركُ الجماعة عمدًا والذهابُ إلى الصلاةِ في الفلاة لتحصيل أجر الخمسين سَفَهٌ وحُمْقٌ، فإنك إن فعلته عمدًا يَفُوتُ عنك ثوابُ الجماعة أيضًا، وإن اتفق لك تُحْرِز ما وَعَدَ لك.
والإسلام عندنا كما يكون بقول: لا إله إلا الله، كذلك يكون بالفعل أيضًا، فلو رَأَى كافرًا يؤذِّن يَحْكُم عليه بالإِسْلام، كما لو رآه يُصَلِّي (المكتل) زنبيل (توكرا) مسحات (كدال) (خَرِبَتْ خَيْبر). وفي الصحيح: «أنه رَفَع يديه أيضًا»، وظني أن رَفْعَه يكونُ كما في التحريمة، لا كما في الدعاء، وحينئذٍ يكونُ عند التكبير. ويُسْتَفَادُ منه: أن الرفعَ شِعارٌ للتكبير. ولعلَّه تكبيرٌ فعليٌّ كما فَهِمَه الشافعيُّ رحمه الله تعالى، وفَهِمَ الحنفية أنه للاستقبال، وإن كان كما في الدعاء. فينبغي أن يكون عند قوله: «خَرِبَتْ خَيْبر»، لأنه دعاءٌ عليهم، لا عند التكبير. وراجِع تفصيله من رسالتي «نيل الفرقدين في رفع اليدين»، فلقد أَطْنَبْتُ الكلامَ فيه في فصلٍ مستقلٍ. 610- قوله: (وإنَّ قَدَمي لَتَمَسُّ قَدمَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ، مع أنه قد مرَّ منه من قبل لفظ: «الفَخِذِ»، وقد بَحَثْتُهُ هناك مستوفيًا، فَرَاجِعْهُ.
والوظائفُ في حق المُجِيب ثلاثةٌ: المثليةُ مطلقًا. واثانية: الحَوْقَلة مكان الحيْعَلَتينِ، وقال بعضهم بالجمع بينهما، واختاره ابن الهُمَام رحمه الله تعالى، وَنَقَلَه عن بعض المشايخ. قلت: المراد به الشيخ الأكبر، ثم تبيَّن لي أن مرضاة الشرع في عامة الأذكار هو التخيير دون الجمع، فأحيانًا كذا، وأحيانًا كذا، وهذا مخصوصٌ بباب الأدعية، فليراع أن بعض العادات تكون مختصَّةً ببعض الأبواب، فلا يَخْتَلِط بينها. وقد تحقَّق عندي أن عادة الشرع في الأدعية أن يأتي بها حينًا كذا، وحينًا كذا. أَلا ترى أنه وَرَدَت أدعيةٌ مختلفةٌ في وقتٍ معيَّنٍ، كما في دُبُر الصلوات؟ فهل يستطيع أحدٌ أن يجمعَ كلَّها في وقتٍ واحدٍ؟ ولكن الأمر أن يُؤْتَى بكلِّها في أزمنةٍ مختلفةٍ، وهذه هي صورة العمل بالجميع دون الجمع بينها. فالسنة عندي: أن يُجيبَ تارةً بالحَيْعَلة، وتارةً بالحَوْقَلة، وما يُتَوَهَّم أن الحَيْعَلة في جواب الحَيْعَلة يُشْبه الاستهزاء، فليس بشيءٍ، لأنه في جملة الكلمات كذلك إن أراد بها الاستهزاء، والعياذ بالله، وإلا فهي كلمات خيرٍ أُرِيْدَ بها الشركة في العمل لينال بها الأجر، فإنها نحو تلافٍ لما فَاتَه من الأذان، فلا بدَّ أن يعمل بعمله ليشترك في أجره. وأمَّا ما يفعله الناس من الصلاة عند الشهادتين، فلم يَرِد به الحديث، وإنما يفعلونه عملا بالأحاديث العامة التي وَرَدَت فيها الصلاة عند ذكر اسمه المبارك، ولا يَدْرُون أن الشرعَ قد راعاه بنفسه، فوَضَع الصلاة عَقِيب الأذان قُبَيْل الأدعية المأثورة لهذا، بل فيها فضيلتان، فإن الصلاةَ قبل الدعاء أيضًا سنةٌ، ولا يُرْفَعُ الدعاء إلا بها، فبالصلاة عَقِيب الأذان يحصل الأمران. وكذلك لا أصلَ لتقبيل الإبهامين عند الشهادتين كما شرع في بلادنا إلا أثرٌ أخرجه القاري، عن أبي بكر رضي الله عنه في «الموضوعات»، لكنه ضعيفٌ يَقْرُبُ المُنْكرَ. ثم لا يِخْفى عليك أن جواب الأذان إنما شرع لكلَ لفقدان العلامة بين المؤذن والمجيب، بخلاف الإمام والمقتدي، فنهى المقتدي عن القراءة في الجهرية. واستحب للمستمع أن يُجِيْبَ الأذان مع جهر المؤذن، فادْرِ الفرق بينهما. وما عن الحَلَواني أن الإجابةَ واجبةٌ، محمولٌ على الإجابة الفعلية، وجاءت روايات في إجابة الإقامة أيضًا مع قوله: أقامهما الله وأدامهما عند صيغة الإقامة، إلا أن أسانيدها ليست بذاك. ثم في الجواب للأذان الثاني من يوم الجمعة ثلاثةُ أقوال: ففي «العناية»: أن الإمام إذا جَلَسَ على المِنْبَرِ، فلا صلاةَ ولا كلامَ غير جواب الأذان. وفي الزَّيْلَعِي «شرح الكنز»: نفي الكلام مطلقًا، فلا يجوز الجواب أيضًا. وفي «البناية»: جواز الكلام الديني مطلقًا، وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كان يصحِّح كتابه إذا لم يَبْلُغْه صوت الإِمام، وعندي: له أن يُجيبه إذا لم يُجِبْ الأذان الأول. فائدة واعلم أن الأدعية بهذه الهيئة الكذائية لم تَثْبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولم يَثْبُت عنه رفع الأيدي دُبُر الصلوات في الدعوات إلا أقل قليل، ومع ذلك وَرَدَت فيه ترغيباتٌ قوليةٌ، والأمر في مثله أن لا يُحْكَم عليه بالبدعة، فهذه الأدعية في زماننا ليست بسنةٍ بمعنى ثبوتها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وليست ببدعة بمعنى عدم أصلها في الدين، والوجه فيه ما ذكرته في رسالتي «نيل الفرقدين»: أن أكثر دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلّم كان على شاكلة الذكر، لا يزال لسانه رَطِبَا به، ويَبْسُطه على الحالات المتواردة على الإنسان من الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، ويتفكَّرون في خلق السموات والأرض. ومثل هذا في دوام الذكر على الأطوار لا ينبغي له أن يَقْصُر أمره على الرفع، فإنه حالةٌ خاصةٌ لمقصد جزئي، وهو وعاء المسألة. فإن ذُقْتَ هذا، نفِّس عن كُرَبٍ ضَاقَ بِهَا الصدر، لا أن الرفعَ بدعةٌ، فقد هَدَى إليه في قوليات كثيرة، وفعله بعد الصلاة قليلا، وهكذا شأنه في باب الأذكار والأوراد، اختار لنفسه ما اختاره الله له. وبقي أشياء رَغَّب فيها للأمة، فإن التزم أحد منا الدعاء بعد الصلاة برفع اليد، فقد عَمِلَ بما رغَّب فيه، وإن لم يكثره بنفسه. فاعلم ذلك اه.
والمسنون في هذا الدعاء ألا تُرْفَع الأيدي، لأنه لم يَثْبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم رفعها، والتشبُّث فيه بالعمومات بعدما وَرَدَ فيه خصوصُ فعله صلى الله عليه وسلّم لغوٌ، فإنه لو لم يَرِد فيه خصوصُ عادته صلى الله عليه وسلّم لنفعنا التمسُّك بها، وأمَّا إذا نُقِلَ إلينا خصوصُ الفعل، فهو الأُسْوَةُ الحسنة لمن كان يرجو الله والدار الآخرة، وينبغي لمن أراد أن يستنَّ بسنة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أن يكتفي بتلك الكلمات، ولا يزيد عليها، إلا ما ثَبَتَ في نسخة الكُشْمِيهَني من زيادة: «إنك لا تُخْلِف الميعاد» في آخره، قاله ابن دقيق العيد، وعند البيهقي أيضًا. وأمَّا زيادة: «والدرجة الرفيعة» بعد قوله: «والوسيلة والفضيلة». فلم تَثْبُت عندي في حديثٍ، فلا يُزَاد بها، لأنها زيادةٌ في خلال الكلمات، وَمَنْ كان لا بدَّ له أن يَزِيْدَ في تلك الكلمات، ففي الآخر كما ثَبَتَ عن ابن عمر رضي الله عنه: «أنه كان يزيد في تلبيته في الآخر: «لبيك وسعديك»... إلخ. 614- (قوله:) (الوسيلة): ورأيتُ في روايةٍ: «أن طُوْبَى شجرةٌ في وسط الجنة، وفي سائر الجنة منها غصنٌ غصن». وبعده فيها ألفاظ يُتَبَادر منها أنها هي الوسيلة، فهذه عندي تُمَثَّل بعلائق الأمة بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا، فدعاؤه للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم ليس لنفع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بل فيه خيره، وهو استيفاء حظِّه من شفاعته صلى الله عليه وسلّم ولذا قال في آخره: «حلَّت له شفاعتي»، فلدعائه دَخْلٌ في حلول شفاعته. وما نُقِلَ عن بعض المشايخ: أن دُعَاءَ الوسيلة تمَّ عليه، وحَصَل له هذا المقام في زمانِهِ، فهو عندي مصروفٌ عن ظاهره، لأن حصولَ هذا المقام للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم ليس مرهونًا بدعاء أحدٍ من أمته، بل هو مقطوعٌ به، والدعاء منا لاستيفاء حظ الشفاعة منه. 614- (قوله:) (مقامًا محمودًا)، ولعلَّ المقَام خارج الجنة في المحشر، والوسيلة داخلها، والله سبحانه أعلم. وصفته بالموصول لكونه علمًا. ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم له اختصاصٌ بالحمد، فاسمه محمد، ولواؤه لواء الحمد، ومَقَامُهُ محمودٌ، وأمته الحمَّادون، وتُلْقَى عليه في ذلك المقام مَحَامِدُ لا تَحْضُرُه الآن. وخاصة تلك الكلمات: أن يَحْيَى بها وجهُ الرحمن. وقال الشيخ الأكبر: إن الحمد يكون في الآخر، فإذا فَرَغَ عن الطعام اسْتُحِبَّ له الحمد، وإذا يَدْخُلُ أهل الجنة الجنة يحمدونه تعالى: {وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ} (يونس: 10) وسُمِّي النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أحمدَ ومحمدًا، لكونه في آخرهم. اللهم صلِّ عليه صلاةً دائمةً مع دوامك، وصلاةً خالدةً مع خلودك، وصلاةً لا مُنْتَهَى لها دون مشيئتك، وصلاة عند كل طرفة عين، وتنفُّس كل نفس.
والقرعةُ لقطع النزاع مَعْتَبَرةٌ عندنا أيضًا، إلا أنها ليست بحُجَّةٍ. (قوله:) (ويُذْكَر: أَن أقوامًا)... إلخ. كان ذلك في حروب القادسية، استشهد مؤذِّنهم، فجَعَلُوا يختلفون فيمن يصير مؤذِّنَا بعده. 615- قوله: (لو يَعْلَمُ الناسُ ما في النداء والصَّفِّ الأوَّل)... إلخ. قلت: ومن خصوصيات الصفِّ الأول أنه يكون أبعد من تسلُّط الشيطان من سائر الصفوف، هكذا يُسْتَفَاد من الأحاديث. واخْتُلِفَ في الصف الأول، والأكثرون: أنه ما يتصل من الشمال إلى الجنوب، والذين في مِحْراب الإمام إذا كان متسِّعًا ليسوا في الصف الأول، خلافًا لبعضهم. 615- (قوله:) (ولو يعلمون ما في العَتَمَة والصُّبْحِ)، ويُعْلَمُ من بعض طُرُقه أنه سِيْقَ للتعريض على المنافقين، لا في فضل هاتين الصلاتين.
كَرِهَهُ الحنفية، وإن تكلَّم اخْتُلِفَ في الإِعادة. (قوله:) (ولا بأس أن يَضْحَكَ)... إلخ، لا ينبغي أن يُفْهَم منه التوسيع في الكلام والضحك وأمثالهما، فإنَّ توارثَ الأمة على ترك السلام في خلاله. (قوله:) (رزغ) كارا. 616- (قوله:) (فلما بَلَغَ المؤذِّنُ حيَّ على الصلاة، فَأَمَرَه أن يُنَادِي: الصلاة في الرِّحَال)... إلخ، ففي هذا الحديث أنه أمَرَ بتلك الكلمات مكان حيَّ على الصلاة، ثم ليس فيه ذكر بقية الأذان. وعن ابن عمر رضي الله عنه في الحُدَيبية: «أنه أَمَرَ بها بعد الفراغ عنه». قلتُ: وعليه ينبغي العمل، فإن ابن عمر رضي الله عنه أكثر اتباعًا للأثر، وأقل اجتهادًا من ابن عباس رضي الله عنه، وفي طُرُقه تصريحٌ أنه كان يوم الجمعة. وعَدُّ الزَّرْغ(2) من أعذار الجمعة في فقهنا أيضًا. وروى محمد رحمه الله تعالى في كتاب «الحجج»: «إذا ابتلّت النعال، فالصلاة في الرِّحَال»، ثم فسَّر النعال بالأرض الصلبة، دون النعل المعروف. والحافظ رحمه الله تعالى لَمَّا لم يَظْفَرْ بكتاب «الحجج»، نقل تفسيره عن «غريب الحديث» لأبي عُبَيْد، وأبو عُبَيْد هذا كثيرًا ما يقول في كتابه: ومن الروايات التي تأوَّلناها على محمد بن الحسن، أي أخذنا شرحه منه. وعُلِمَ منه أن شاكلةَ الجمعة تُغَاير شاكلة سائر الصلوات عندهم، ولذا من تخلَّف منهم عن الجمعة لم يصلِّها في بيته. ولو كان حال الجمعة كحال سائر الصلوات، لأقاموا الجمعات في رِحَالهم أيضًا، فافهم. 616- (قوله:) (وإنها عَزْمَةٌ): يعني أن صلاةَ الجمعة عَزْمة، فلولا أَمَرْت بهذه الكلمات أن ينادى بها في الأذان لحضرتم كلكم، وربما تحرَّجتم، فصلَّيت بالحاضرين، وأعلنت بتلك الكلمات لمن أَرَاد أن لا يَحْضُرها، ويصلِّي في بيته.
وفي «المحيط»: أنه مكروهٌ، والمختار ألا بأس به إذا كان عنده من يُخْبِره بالوقت، وبه حَصَل الجمع أيضًا. 617- قوله: (إن بلالا يؤذِّنُ بليلٍ)... إلخ، وفيه مباحث: الأول: هي يُشْرَع تكرار الأذان لصلاةٍ واحدةٍ أو لا؟ فقال الشافعيةُ: إنه جائزٌ مطلقًا، ويُسْتَفَاد من كتاب «الأم» للشافعيِّ رحمه الله تعالى: أن فيه تفصيلا من نحو كونه عند الحاجة، وكونه في أمكنةٍ متعدِّدةٍ، وكون المؤذِّن متعدِّدًا ثم صَرَّح فيه بجواز التكرار إلى أربعة. وقال النوويُّ: يُسْتَحَبُّ أن لا يُزَاد على أربعةٍ إلا لحاجةٍ ظاهرةٍ، وهذا يَدُلُّ على جواز الزيادة على الأربعة أيضًا، وهذا التكرار عندهم إعلامٌ بعد إعلامٍ حتى جوَّزوه في الصلوات الخمس لا إعادة. ولعلَّ زيادة عثمان رضي الله عنه النداء الثالث أيضًا تحت هذه الضابطة، لأنه لمَّا رَأَى أن الشرعَ وَرَدَ بتكرار الأذان في الفجر، لكونه وقت الغَفْوَة والغَفْلَة، زاده في الجمعة أيضًا لظهور الاحتياج فيه إلى مزيد إعلامٍ. والحنفية أيضًا أبَاحُوا أذان الجَوْق، إلا أن أذان الجَوْق يكونُ في وقتٍ واحدٍ، والتكرارُ عندهم يكون بطريقِ التعقيب، بل يُسْتَحَبُّ أن يترتَّبُوا فيه إذا اتسع الوقت. قلت: وقد تمسَّك لأذان الجَوْق بما أخرجه مالك في «الموطأ» في باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يَخْطُب: «فإذا خَرَجَ عمر، وجَلَسَ على المنبر، وأذَّن المؤذِّنون، وقال ثَعْلَبة: جَلَسْنَا نتحدَّث، فإذا سَكَتَ المؤذِّنون، وقام عمر يَخْطُب، أنصتنا فلم يتكلَّم منا أحدٌ». اه. والثاني: هل يجوز الأذان قبل الوقت؟ فأجمع كلُّهم على أن الأذان قبل الوقت لا يَجُوز إلا في الفجر، فذهب الجمهور إلى جوازه في الفجر خاصةً، وقال إمامنا الأعظم ومحمدٌ رحمهما الله تعالى: إنه لا يجوز في الفجر كما في أخواته عندهم، وتمسَّك الجمهور بحديث ابن عمر رضي الله عنه، وعائشة رضي الله عنها في تكرار الأذان، وفيه تصريحٌ بأن الأذان الأول كان قبل الوقت. والثالث: أنهم اختلفوا في وقته، فأجازه النوويُّ من نصف الليل، وهو تطاولٌ محضٌ ليس له مُسْكَة في الأحاديث، بل فيه ما يَدُلُّ بخلافه، كما في البخاري: «ولم يكن بين أذانيهما إلا أن يَرْقَى هذا، وينزل هذا». فدلَّ على تقارُب الأذانين جدًا، ومنه سَقَطَ تأويله: أن بلالا كان يُؤَذِّن قبل الفجر، ويتربَّص بعد أذانه للدعاء ونحوه، ثم يَرْقُبُ الفجرَ، فإذا قارب طلوعه نَزَلَ، فأخبر ابن أم مكتوم، فيتأهَّب ابن أم مكتوم بالطهارة، ثم يَرْقَى ويَشْرَعُ في الأَذان مع أول طلوع الفجر.اه. وأنتَ تَعْلَمُ أنه لم يَحْتَجْ إلى هذا التصوير البعيد، إلا أنه لَمَّا التزم جوازه من نصف الليل، وكان الحديث يَدُلُّ على شدَّة التقارُب بينهما، حَمَلَه على أنه كان يُؤَذِّن بليلٍ، وكان يَجْلِسُ هناك ليصادف نزولُ هذا صعودَ هذا، فيَصْدُق التقارب. وكأنه كان بصدد الجمع بين ما اختاره وبين تعبير عائشة رضي الله عنها في شدَّة التعجيل، فلم يكن يَنْزِلُ حتى يجيءَ وقتُ أذان ابن أم مكتوم، ثم كان يَنْزِلُ بحيث يَقَعُ أذانُ ابن أم مكتوم في أول الطلوع، لئلا يُخَالِفَ مسألة التغليس أيضًا، وهذا كلُّه إنما يمشي إذا أخذ التقارُب فيه بين النزول والصعود. وقد عَلِمْتَ من متن البخاري ما بين الأذانين، فدَلَّ على قلة الفاصلة بين الأذانين جدًا، ولذا قال السُّبْكي: إن وقتَ الأذان الأول من سدس الليل بعد طُلُوعِ الصبح الكاذب، وصحَّحه. وإنما عبَّره ابن عمر رضي الله عنه بالليل توسُّعًا لبقاء بعض الظلمة بَعْدُ، فَحَمَلَه على الليل حقيقةً، ولعلَّ النوويَّ ذَهَبَ إليه، لأنِ رَأَى وقتَ العشاء إلى النصف بلا كراهة، فَجَعَلَ أذان الفجر في النصف الثاني، لأن هذا الأذان عندهم للفجر، فلا يكون إلا بعد انقضاء وقت العشاء، وهو إلى النصف بدون كراهة. قلت: فهلا جَعَلَ للعشاء والفجر أذانًا واحدًا، فإنه إذا قدَّمه إلى النصف فما بعده أيسر. والذي تَدُلُّ عليه الأحاديث هو تقارب الأذانين جدًا، حتى بالغت فيه عائشةُ رضي الله عنها، قالت: «لم يكن بين أذانيهما»... إلخ. وهذا أيضًا مبالغة منها، ولم تُرِدِ الفاصلة بقدر هذا فقط، بل أرادت بيان شدَّة التقارُب بينهما. فإن كان حنفيٌّ يريد أن يَجْمَدَ على ظاهر تعبيرها، ويشدِّد على الشافعية، فليس بسديدٍ، فإن الشيءَ من باب المحاورات، والأخذ فيه بمثله، أخذٌ بكل حشيشٍ. والرابع: أنه إن أذَّن قبل الوقت، فهل يُجْتَزِىء بذلك، أو يعيده في الوقت أيضًا؟ فادَّعى الشافعية أنه يُجْزِىءُ بذلك، واسْتَبْعَدَه الحنفية، وقالوا: كيف مع ورُود التكرار في متن الحديث صراحةً؟ والمختار عندنا أنه لا يُعْتَدُّ بالأذان قبل الفجر، ويجب الإعادة في الوقت، كما في سائر الأوقات عندهم أيضًا. والخامس: أن الأذان الأول كان للفجر، أو لمعنى آخر؟ فذهب الشافعيةُ أنه كان للوقت كالثاني على طريق الإعلام بعد الإعلام، وادَّعى الحنفيةُ أنه كان للتسحير لا للوقت. وتمسَّك له الطحاويُّ بما رُوِيَ عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، وهو عند مسلم أيضًا: «لا يَمْنَعَنَّ أحدَكم أذانُ بلالٍ، أو قال: نداءُ بلالٍ من سَحُوره، فإنه كان يُؤَذِّن ليَرْجِعَ قائمكم، ويُوقِظَ نائمكم»... إلخ فتبيَّن منه أن أذان بلال إنما كان لأجل أن يَرْجِعَ قائم الليل عن صلاته ويتسحَّر، ويستيقظ النائم فيتسحَّر، فهذا تصريحٌ بكونه للتسحير لا للفجر. وأمَّا للفجر، فكان ينادي به ابن أم مكتوم، ولذا كان يَنْتَظِرُ الفجرَ ويتوخَّاه. وتحيَّر منه الحافظُ ولم يَقْدِر على جوابه، إلا أنه قال: لا تناقُضَ بين الأسباب، فَجَازَ أن يكون للتسحير أيضًا. ثم المذكور في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في جميع طُرُقه هو الأذان الواحد فقط، ولا ذكر فيه للثاني، فَحَمَل الحنفيةُ الساكتَ على الناطقِ، وَعَجَز عنه الحافظُ أيضًا، فإنه لا دليلَ فيه حينئذٍ على الاجتزاء بالأذان الواحد. والسادس: أنه كان في رمضان خاصةً، صرَّح به أحمدُ رحمه الله تعالى كما في «المغني» لابن قُدَامة، وابن القطَّان كما في «الفتح»، وابن دقيق العيد كما في «التخريج» للزَّيْلَعِي. والسابع: أن هذا الأذان كان بعين تلك الكلمات، أو بكلماتٍ أخرى غير المعروفة، فذهب السَّرُوجي منا أنه كان بكلماتٍ أخرى غير تلك الكلمات، وحمله الشافعية رحمهم الله تعالى على المعروف. فهذه سبعة مباحث. ولعلَّك فَهِمْتَ منها أن في استدلالهم نظرٌ من وجوهٍ: الأول: في ثبوت نفس التكرار، وإن سلَّمناه، فلنا أن نمنع كونه بكلماتٍ معروفةٍ، لِمَ لا يجوز أن يكون بكلماتٍ أخرى؟ وإن سلَّمناه، فلِمَ لا يجوز أن يكون في رمضان خاصةً؟ ولو سلَّمناه أيضًا، فَلِمَ لا يجوز أن يكون الأول للتسحير لا للفجر؟ فعليهم أن يُثْبِتُوا هذه الأشياء، ودونه خَرْطُ القَتاد. قلت: لمّا رأيت الحنفيةَ يتأوَّلون بكون الأول في رمضان خاصةً، تتبعت له كتُبَ الفقه: أن المسألة عندنا هي أيضًا كذلك، أو هو مجرد احتمال واحتيال، فوجدتُ في «شرعة الإسلام» لشيخ صاحب «الهداية»: جواز العمل به في رمضان عندنا. وحاصلُ هذا الجواب: أنه لا نِزَاع في نفس التعدُّد، وإنما النزاع في تعدُّد الأذان للفجر، ولا دليلَ عليه من ألفاظ الحديث، بل فيها أنه كان للتسحير، وهو جائزٌ عندنا أيضًا. وههنا جوابٌ آخر ساقه الطَّحاويُّ في «معاني الآثار»، وقال: يحتمل أن يكون بلالا كان يؤذِّن في وقتٍ كان يَرَى أن الفجرَ قد طَلَعَ فيه، ولا يتحقَّق ذلك لضعف بصره، لما رُوِيَ عن أنس رضي الله عنه: «لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال، فإن في بصره شيئًا». وفي بعض ألفاظ عندي: «فإن في بصره سوءٌ». وقوَّاه ابن دقيق العيد، ثم أيَّده الطَّحاويُّ بما رُوِي عن عائشة رضي الله عنها من التقارُب الشديد بين أذانيهما، حيث قالت: «فلم يكن إلاّ مقدار ما يَصْعَدُ هذا، ويَنْزِلُ هذا»، فثَبَتَ أنهما كانا يَقْصُدَان وقتًا واحدًا، وهو طُلُوع الفجر، فيخْطِئُهُ بلال لِمَا ببصره شيء، ويُصِيبُهُ ابن أم مكتوم، لأنه لم يكن يفعله حتى يقول له الجماعة: أصبحت أصبحت. وله جوابٌ آخر: «أن الأسودَ سَأَلَ عائشةَ رضي الله عنها عن وترها، فقالت: إذا أذَّن المؤذِّن، قال الأسودُ: وإنما كانوا يؤذِّنون بعد الصبح». وسماع الأسود عن عائشة رضي الله عنها كان بالمدينة، ثم هو يروي أذان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد الصبح، وعائشة رضي الله عنها لم تُنْكِر على تركهم التأذين قبله، ولا أنكر عليه غيرها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع أنها سَمِعَت من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في تعدُّد الأذان ما سَمِعَت. وله جوابٌ آخر أيضًا: ما أُخْرِجَ عن ابن عمر رضي الله عنه: «أن بلالا أذَّن قبل طُلُوع الفجر، فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أن يَرْجِعَ، فنادى: ألا إن العبدَ قد نام». فهذا ابن عمر رضي الله عنه يروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ما ذكرناه، وهو ممن قد رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن بلالا يؤذِّن بليلٍ»... إلخ فَثَبَتَ بذلك أن ما كان من ندائه قبل طُلُوع الفجر مما كان مباحًا له هو لغير الصلاة، وأننا ما أنكره عليه إذ فعله قبل الفجر كان للصلاة. وقد رُوِيَ عن ابن عمر، عن حَفْصَة بنت عمر رضي الله عنهم في حديثٍ: «وكان لا يؤذِّنُ حتى يُصْبِحَ». فهذا ابن عمر رضي الله عنه يُخْبِرُ عن حَفْصَة رضي الله عنها: أنهم كانوا لا يؤذِّنُونَ حتى يُصْبِحَ». فهذا ابن عمر رضي الله عنه يُخْبِرُ عن حَفْصَة رضي الله عنها: أنهم كانوا لا يؤذِّنون للصلاة إلا بعد طُلُوع الفجر. وأَمْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بلالا أيضًا أن يَرْجِعَ فينادي: «ألا إن العبدَ قد نام»، يَدُلُّ على أن عادتهم أنهم كانوا لا يَعْرِفُون أذانًا قبل الفجر، ولو كانوا يَعْرِفُون ذلك لَمَا احتاجوا إلى هذا النداء. وأراد به عندنا- والله أعلم- ذلك النداء إنما هو لِيُعْلِمَهم أنهم في ليلٍ بَعْدُ حتى يُصَلِّي من آثر منهم أن يُصَلِّي، ولا يُمْسِك عنه الصائم. اه. بتغييرٍ. واعْتُرِضَ عليه من جهة الإسناد والمعنى جميعًا. أمَّا الأول، فقالوا: إن الصحيحَ وَقْفُه على عمر رضي الله عنه، فهو واقعةُ عمر رضي الله عنه مع مؤذِّنه، لا واقعة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم مع بلال وأُجِيبَ: إن حَمَّادًا إن سلَّمنا تفرُّده، فهو ثقةٌ مقبولٌ، مع أنه ليس بمتفرِّدٍ فيه، وله مُتَابَعَاتٌ شتَّى، وإحداها قوية، فلا يُمْكِن إنكاره وإنما اضْطَرُّوا إلى إنكاره لِمَا ثَبَتَ عندهم تقديم الأذان عن وقته، وهكذا قد يأتي الفِقْهُ على الحديث. وأمَّا من جهة المعنى، فكما قال الترمذي: إن حديث حمَّاد لو كان صحيحًا لم يكن لهذا الحديث معنى، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن بلالا يؤذِّن بليلٍ»، فإنما أمرهم فيما يُسْتَقْبَلُ، ولو أنه أمره بالإِعادة حين أذَّن قبل طُلُوع الفجر لم يَقُل: «إن بلالا يؤذِّن بليلٍ». اه. وأُجِيبَ: بأن العمل في تكرار الأذانين كان مختلفًا، فكان بلالٌ يؤذِّن بالليل، وابنُ أمّ مكتوم في الصباح، ثم صَارَ ابنُ أم مكتومٍ مكان بلالٍ، فكان ابنُ أم مكتومٍ يؤذِّن في الليل، وبلالٌ في الصباح. هكذا ثَبَتَ في بعض الروايات، وأخرجها الحافظ في «الفتح». وزَعَم بعضُهم فيه قلبًا من الرَّاوي، والصواب أنه ليس بقلبٍ، بل محمولٌ على اختلاف الزمانين وعليه استقرَّ رأيُ الحافظ بعد تطريقه. فإذا ثَبَتَ أنه كان كذلك، فلنا أن نقول: إن قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «إن بلالا يؤذِّن بليلٍ»، إنما هو في زمانٍ كان بلالُ يؤذِّن بالليلِ وابن أم مكتوم في الصباح. وأمَّا أَمْرُه إياه أن ينادي: «ألا إن العبدَ قد نام» فجاز أن يكون في زمان كان بلالُ يؤذِّن فيه في الصباح واتفق في ذلك اليوم أنه أذَّن في الليل على عادته القديمة، أو ظنَّ أن الفجرَ قد طَلَعَ عليه، فاحتاج إلى الاعتذار عنه. فإن الأذان بالليل قد كان فَرَغَ عنه ابنُ أم مكتومٍ، وكان ينبغي له ألا يؤذِّن إلا بعد طُلُوع الفجر لئلا يقع الأذانان كلاهما في الليل، فلمَّا أذَّن هو أيضًا بالليل لَزِمَه أن يَعْتَذِرَ عنه، لأنه قد أذَّن قبل وقته الذي كان يؤذِّن فيه، فهذا هو وجهه، والله تعالى أعلم. ثم إنك قد عَلِمْتَ عن حَفْصَة رضي الله عنها: أنهم كانوا لا يؤذِّنون للصلاة إلا بعد الفجر، وهكذا عن الأسود في حديث عائشة رضي الله عنها، وقد مرَّ آنفًا. وأخرج الطَّحَاويُّ عن سُفْيَان بن سعيد أنه قال له رجلٌ: «إني أؤذِّن قبل طُلُوع الفجر لأكون أول من يَقْرَعُ باب السماء بالنداء، فقال سُفْيَان: لا حتى يَنْفَجِرَ الفجرُ». وعن عَلْقَمَة عنده قال إبراهيم: «شيَّعنا عَلْقَمَةَ إلى مكة، فخرج بليلٍ، فَسَمِعَ مؤذِّنًا يؤذِّن بليلٍ، فقال: أمَّا هذا، فقد خَالفَ سنةَ أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم لو كان نائمًا كان خيرًا له، فإذا طَلَعَ الفجرُ أذَّن». وفي «التمهيد»، عن إبراهيم قال: «كانوا إذا أذَّن المؤذِّن بليلٍ أَتَوْهُ، فقالوا له: اتقِ الله، وأَعِد أذانك». ومن أراد التفصيل فليراجع الزَّيْلَعِي. ثم ههنا دقيقةٌ أخرى يجب التنبيه عليها، وهي: أن الطَّحَاويّ ادَّعَى جوازَ الأكل في زمانٍ بعد طلوع الفجر أيضًا، ووافقه الداودي المالكي شارح البخاري، وأيَّده الحافظُ رحمه الله تعالى أيضًا، وأخرج أثرًا عن أبي بكر رضي الله عنه: «أنه أكل بعد الفجر»، وعن حُذَيْفَة مثله كما في «التفسير المظهري». واستشكل الحافظُ روايةَ الباب أيضًا، وقال: إنه جَعَلَ أذانَ ابن أم مكتوم غايةً للأكل، فلو أذَّن بعد دُخُول الصباح- كما يعلم من الرواية، وكان ابنُ أم مكتومٍ رجلا أعمى لا ينادي حتى يُقَال له: أصبحت أصبحت- لَزِمَ جوازُ الأكل بعد طُلُوع الفجر، وهو خِلافُ ما عليه الجمهور. فالظاهر أن حديثَ الباب مؤيِّدٌ لمن قال: إن حُرْمَةً الأَكل بتبيُّن الفجر، لا بنفس الطُّلُوع، وهو أقوى حُجَّةً، وهو أقوى حُجَّةً، كما قالوا. اه- مختصرًا. قلت: ومن بقاياه ما تسلسل في كُتُب الفِقْه من رواية جواز الأكل بعد الطُّلُوع أيضًا، كما في «قاضيخان»، وإن كان الأحوطُ هو التركُ. وأصل البحث في القرآن: فمنهم من أراد منه التبيُّن التام، ومنهم من اكتفى بنفس التبيُّن، ولذا أقول: إن من أكل بعد الطُّلُوع وانتهى عنه قُبَيْل الانتشار، فإنه يقضي فقط ولا يُكَفِّر، واستدلَّ الطَّحَاوِيُّ على ذلك بقصة زِرّ بن حُبَيْش مع حُذَيفة في الصيام، ثم أخرج في باب التأذين قبل الفجر، عن حَفْصَة رضي الله عنها: ما مرَّ آنفًا، ولفظه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا أذَّن المؤذِّن بالفجر، قام فصلَّى ركعتي الفجر، ثم خَرَجَ إلى المسجد، وحَرُمَ الطعامُ، وكان لا يؤذِّن حتى يُصْبِح». وعند أبي داود، في باب الرجل يَسْمَعُ النداء والإناء على يده، عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا سَمِعَ أحدُكم النداءَ والإناءُ على يده، فلا يَضَعْه حتى يقضي حاجته منه».اه. فهذه الروايات تَدُلُّ على جواز الأكل بعد نداء الصبح أيضًا، وحينئذٍ دَعَتْ الضرورةُ إلى الأذان الآخر، ليُمْسِكَ من أراد الصومَ عَمَّا يُمْسِكُ عنه الصائمون، فيمكن أن يكون تعدُّد الأذان في ذلك الزمان، فإذا نُسِحَ الأكلُ بعد الفجر، نُسِحَ أحدُ الأذانين أيضًا، وهو الذي قبل الفجر. وقال بعضُ العلماء: إن الأذان قبل الفجر في عهد صلى الله عليه وسلّم كان لتعليمهم وقت السُّحُور، ثم لمَّا عَرَفُوه تُرِكَ. هذا زُبْدَة مقالهم، وملخَّص كلامهم في هذا الباب. والذي تبيَّن لي هو أن الأذانَ الأولَ أيضًا كان للوقت كالأذان الثاني، ومن قال: إن الأذان الأولَ لو كان للفجر لَمَا كانت حاجةٌ إلى الأذان الثاني، ففيه مصادرةٌ على المطلوب، كيف وهذا أول النزاع؟ وقد بيَّنا في أول الكلام أن الأذانَ الثاني ليس إعادةً ليُتَوَهَّم منه إبطال العمل، بل هو إعلامٌ بعد إعلامٍ، وهو معقولٌ. وإنما التزم الحنفية أنه للتسحير ليَسْهُلَ الجواب عليهم، ولذا قالوا: إنه مخصوصٌ برمضان. قلتُ: ولا دليلَ عليه، وأمَّا ما قال به ابن القطَّان وابن دقيق العيد، فليس في أيديهما شيءٌ أيضًا إلا هذا الحديث، ولا نقلَ عندهم من الخارج أنه كان مخصوصًا برمضان، وإنما أبداه من قوله: «فَكُلُوا واشْرَبُوا»، ففَهِمَا منه أنه كان للتسحير، لأن الأكلَ والشربَ في الليل لا يكون إلا تسحيرًا، ولا يكون إلا في رمضان. وأصرحُ حُجَّةٍ عندهم على ذلك: حديث ابن مسعود رضي الله عنه لِمَا فيه تصريحٌ بعلَّة الأذان، وهي أنه: «لِيَرْجِعَ القائمُ، ويستيقظَ النائمُ». وحَمَلُوه على التسحير، فَغَلِطُوا في شرحه، مع أن المرادَ من القائم ليس هو القائمُ للصلاة، بل هو الذي قام عن فراشه، ثم ذهب لحاجته وتفرَّق في الفضاء وغيره، فمعناه أن بلالا يُؤَذِّنُ ليَرْجِعَ هذا القائم إلى الصلاة، وليقومَ من كان نائمًا، فيتأهَّبَ للصلاة. وعند الطَّحَاوِيِّ: «ليرجعَ غائبكم» بدل قائمكم، أي من كان غائبًا، ولم يكن موجودًا في بيته، وهو أصرح في هذا المراد. ثم رأيتُ الشافعيَّ رحمه الله تعالى شَرَحَه بعين ما قلتُ. والحافظُ رحمه الله تعالى لَمَّا لَمْ يُدْرِكْ مراده تحيَّر منه، وَعَجَزَ عن جوابه، ولم يَقْدِر إلا على أنه لا تناقضَ في الأسباب، فجاز أن يكونَ للتسحير أيضًا، فكأنه التزم شرحه المشهور. وأمَّا إذا عَلِمْتَ حقيقةَ الحال، لم يَبْقَ لنا فيه استدلالٌ. بقي حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما، فليس فيه بيانٌ لِمَا كان بلالٌ يُؤَذِّنُ له، وإنما فيه: «أن بلالا يُؤَذِّنُ بليلٍ»، وأما لأي شيء هو، فلا حَرْفَ له فيه، وحَمْلُهُ على التسحير من بداهة الوَهْم لا غير، بل في طُرُقه ما يَدُلُّ على خلاف ذلك، وهو قوله في «صحيح البخاري»: «لا يَمْنَعَنَّكم أذانُ بلال»، فدلَّ على أن أذانه لم يكن مانعًا عن التسحير، لا أنه كان للتسحير كما فَهِمُوه، وهل تستطيع أن تفرِّق بينهما؟ ثم إنه لا ذِكْرَ للأذان الثاني في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في واحدٍ من طُرُقه، وإنما فيه الأذان الواحد، وهو قبل الوقت، وليس فيه علَّةُ الأذان، بل فيه نكتةُ التقديم، أي إن بلالا يُؤَذِّنُ بليلٍ ويقدِّمه ليرجعَ القائم إلى الصلاة، وليتأهَّب النائمُ. أمَّا الأذانُ، فهو لِمَا عُهِدَ في الشرع، فَطَاحَ ما زَعَمُوه أنه للتسحير، وكفانا عن إثبات كونه للفجر. فإن الأذانَ لم يُعْهَد عند الشرع إلا للصلاة، مع أنه إذا قال: حيَّ على الصلاة، فليس معناه إلا أنه للوقت، وإذا كان الأمرُ كذلك، فلا يُنَاسب أن يُقَدَّم إلى نصف الليل كما زَعَمَه النوويُّ، بل هو كما قلنا في الصبح المستطيل قبل المستطير. بقي أن الأذانين هل كانا في رمضان خاصةً؟ فهو أيضًا مما لا دليلَ عليه. 617- أمَّا قوله: «فكُلُوا واشْرَبُوا»، فهو متأتَ على ما فرضناه خارج رمضان أيضًا، وهذا لمن كان يريد صيام النفل، لا سِيَّما في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فإن بعضَهم كان يصومُ صومَ داود، وبعضَهم يصومُ أيامَ البيض، وآخر يصومُ الدهرَ فلا يُفْظِرُ. ولم يكونوا بقليل، فأمكن أن يكون قوله: «فكُلُوا واشْرَبُوا» بالنظر إلى هؤلاء. ويَدُلُّ على ما قلنا ما في «المسند»، و «الكنز»: «فمن أراد الصوم، فلا يمنعه أذانُ بلال حتى يؤذِّن». اه. فجَعَلَ الصومَ فيه بخيرته، فهل يُنَاسِبُ هذا في رمضان؟ فهو إذن لم يكن مُخْتَصًّا برمضان كما أنه لم يكن مستمرًّا في سائر السنة، أمَّا إنه لم يكن مستمرًّا في السنة كلِّها، فمما يَدُلُّ على ذلك ما في «السنن»: «إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم حذَّر في أمر الجماعة مرةً وعظَّم أمرها، وخَفَضَ فيها وَرَفَعَ، فقال ابن أم مكتوم: إني رجلٌ أعمى، وليس لي قائدٌ، فهل لي رُخْصَةٌ؟ قال: نعم، ثم سأله أنه هل يَسْمَعُ التأذين؟ قال: نعم، فلم يرخِّصه في ترك الجماعة». فهذا صريحٌ أنه لم يكن يؤَذِّن دائمًا، وفيه دليلٌ على أن لسماع الأذان مزيدَ دَخْل في حضور الجماعة. وفي «الطبقات» لابن سعد: «إن بلالا كان يُؤَذِّن إذا حَضَر بالمدينة، وإذا غَاب أَذَّن ابنُ أم مكتوم، وكان بلالُ إذا أذَّن أذَّن قبل الوقت». نقله عن الواقدي، وهو أعلم بهذه الأشياء. وبالجملة إني متردِّدٌ في ثُبُوت استمرار تعدُّد الأذان، ثم في أنهما كانا في مسجدين أو في مسجدٍ واحدٍ، فإن كانا في مسجدين خَرَجَ عمَّا نحن فيه، ولا دليلَ عليه في قول عائشة رضي الله عنها: «لم يكن بين أذانيهما إلا قدر ما يَنْزِلُ هذا وَيَصْعَدُ هذا». وليس فيه إلا شِدَّة التقارُبِ بينهما، لا أنهما كانا في مسجدٍ واحدٍ، ومن العجائب ما في «الوفاء» من الاكتفاء بأذانٍ واحدٍ لجميعِ أهل المدينة، وكان في المدينة يومئذٍ تسعُ مساجدَ، وكلُّهم كانوا يصلُّون على أذان بلال، وليس مذهبًا لأحدٍ، ثم إني أجدُ في أحاديثٍ عدمَ رِضَاء النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بأذانه قبل الفجر، وهذا حيث كان الأذانُ واحدًا، وهو كما أسلفناه عن الطَّحَاويِّ: «لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال، فإن في بصره شيئًا»، وهذا يَدُلُّك ثانيًا على أن أذانَ بلال قبل الفجر لم يكن للتسحير كما فَهِمُوه، وإلا لَمَا احتاج إلى الاعتذار عنه: «بأن في بصره سوء»، بل كان للفجر، ثم كان يقدِّمه لسوء في بصره، فأَمر الناسَ أن يتحقَّقوا الفجر بأنفسهم. وكذلك ما مرَّ عن حَفْصَة رضي الله عنها، والأسود عند الطَّحَاوِيِّ: «أنه كان لا يُؤَذِّنُ حتى يُصْبِحَ»، وعند أبي داود: ولا تُؤَذِّنْ حتى يَسْتَبِيْنَ لك الفجرُ». قال أبو داود: وهو منقطعٌ. قلتُ: وقد أخرجه الحافظُ ضياء الدين المقدسي في «مختاراته»، فلا بدَّ أن يكون قابلا للعمل، وهو عندي بإسنادٍ قوي أيضًا. والحاصل: أني متردِّدٌ في كون هذين الأذانين في مسجدٍ واحدٍ، وفي استمرارهما سائر السنة، والذي تَلَخَّصَ عندي: أن الأذانين حين كان ينادى بهما كانا للصلاة قطعًا لا للتسحير، نعم لم يكن الأول مانعًا عن التسحير بخلاف الثاني. وعلى هذا ينبغي أن يُؤَوَّلَ ما رُوِيَ عن محمد: «أن الأذانَ الأولَ كان للتسحير»، بأن معناه: لم يكن مانعًا عن التسحير. ثم إن اكتفى بأذانٍ واحدٍ، كان المطلوبُ فيه أن يكونَ بعد الفجر، فإن وَقَعَ قبل الفجر بقليلٍ أَغْمَضَ عنه، ولم يرض به، وهو قوله صلى الله عليه وسلّم «لا يَغُرَّنَّكُمْ أذانُ بلالٍ، فإن في بصره سوءً». ففيه نداءٌ على عدم رضائه مع الإغماض عنه، وإن تقدَّم على وقته المعهود بزمنٍ طويلٍ لم يُغْمِض عنه، ولم يتركه حتى ينادي: «إن العبدَ قد نام». فحَمْلُه عندي: إذا قدَّمه على ما كان من عادته أيضًا، ثم لم يأمره بالإعادة. فيُسْتَفَاد من الأحاديث: جواز الأذانين للفجر، مع كون الأول قبل الوقت. ويُسْتَفَاد: أن المطلوبَ كونهُ بعده إن اكتفى بالواحد، ولا إعادة إن قدَّم بقليلٍ. ومحصَّل الكلام بعد هذا التطويل والإسهاب بحيث يَمَلُّ منه النُظَّارُ، وتَكِلُّ منه الأنظارُ: أن الحديث لم يُوَافِقِ الحنفية بتمامه، كما إنه لم يُوَافِقِ الشافعية بتمامه، لأنه ليس فيه: أن أذان الفجر إن تقدَّم على الوقت، وَجَبَ إعادته، كما في فِقْهِنَا، وكذلك ليس فيه: الأذان قبل الفجر مطلقًا، كما كَتَبَه الشافعية، والأصوبُ في الجواب: أنه ثَبَتَ الأمران، إلا أن الأمرَ انتهى إلى: أن لا يؤذِّن للفجر حتى يَسْتَبِيْنَ ولعلَّ بعض القطعات من تلك القصة لم تَصِلْ إلينا، فانْخَرَمَ به المراد.
عَكَسَ المصنِّف رحمه الله تعالى في وضع التراجم، فبوَّب بالأذان بعد الفجر أولا، وبالأذان قبله ثانيًا إيماءً إلى أنه لا مَنَاص عن الأذان بعد الفجر، سواء أذَّن قبله أو لا. ومن ههنا عُلِمَ أن ما ذَهَبَ إليه الشافعيُّ رحمه الله تعالى من الاكتفاء بالأذان الأول فقط، والحنفية من نفي الفائدة في ذلك الأذان أصلا، ليس بسديدٍ: فإن الأذانَ بعده مما لا بدَّ منه، وقبله مفيدٌ ولو في الجملة مثل التهيؤ لها وغيره. 618- قوله: (إذا اعْتَكَفَ)... إلخ، فَهِمَ منه المصنِّف رحمه الله تعالى: أن اعتكافه كان لارتقاب طُلُوع الصبح ليؤذِّنَ حين يتبيَّن له، ولذا ترجم عليه بالأذان بعد الفجر. 618- قوله: (ركعتين خفيفتين) حتى تردَّدت عائشةُ رضي الله عنها: أنه هل قَرَأَ فيها شيئًا، أم لا؟ ورُوِيَ مثله عن ابن عمر رضي الله عنه، إلا أنه علَّله أبو نصر، ووجهُ إعلاله: أنه رُوِيَ عنه مرةً: «أنه رآه يقرأ فيهما بسورة الإخلاص إلى شهرين»، ورُوِي عنه أخرى: «أنه لم يَرَه هو، بل بَلَغَه عن أخته حَفْصَة رضي الله عنها، لأنه صلى الله عليه وسلّم كان يصلِّيهما في بيته، ولم يكن يَدْخُل عليه في تلك الساعة أحدٌ».
لا يُقَال: إن الأذانين لو كانا بكلماتٍ واحدةٍ لَمَا حَصَلَ التمييزُ بينهما، ولَمَا أفاد تأذينُ ابن أم مكتومٍ فائدةً، فَلَزِم أن يكونا بكلماتٍ مختلفةٍ بحيث لا يَغْتَرُّ الصائمُ بالأذان الأول، ثم إذا سَمِعَ الأذانَ الثاني يُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عنه الصائمون، لأنا نقول: إن التمايُزَ يَحْصُل من تِلْقَاء أصواتهما، وإن لم يَحْصُل من جهة كلماتهما، وأن الأذانين لو كانا بكلماتٍ مختلفةٍ ولم يكن بينهما التباسٌ على زعمكم، فما معنى قوله: «لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال»، فإنه يَدُلُّ على أن أذانه كان بحيث لو اغترَّ منه مُغْتَرٌّ لاغترَّ، فَدَلَّ على وَحْدَة كلماتهما على طوركم أيضًا.
وقدَّره الحنفية بقَدْر أن يقضي الرجلُ حاجَتَه، ويَرْجِعَ إلى الصلاة، وأقلُّه أن يُصَلِّي فيه أربع ركعات إلا في المغرب، فإنه يُسْتَحَبُّ فيها التعجيل مهما أمكن. وقال ابن الهُمَام رحمه الله تعالى: يَنْتَظِرُ فيها أيضًا بقدْر ركعتين لورود الحديث فيه، وذهب إلى إباحتها كما في «القنية» أيضًا. وفي عامة الكُتُب: إن الصلاةَ قبل المغرب مكروهةٌ والأوجه ما اختاره ابن الهُمَام، وإليه ذَهَبَ مالكٌ رحمه الله تعالى. وقال الشافعيُّ رحمه الله تعالى: يُصَلِّي ويتجوَّز فيهما، وعن أحمد رحمه الله تعالى: أنه صلاهما مرةً، ثم لم يستمر عليهما، كما يُعْلَمُ من «مسنده». وفي العيني: أنه لم يصلِّها إلا مرةً حين بَلَغَه الحديث، وهكذا عُرِفَ من عادات المحدِّثين: أنهم كانوا يعملون بالحديث مرةً حين يَبْلُغُهم وإن لم يَذْهَبُوا إليه ولم يختاروه، وإنما يَبْتَغُون بهذا الطريق سبيل الخروج عن عُهْدَتِهِ. ونَقَلَه الحافظ في «الفتح»، وفيه سهوٌ، فكَتَبَ: حتى بَلَغَه الحديث، مكان «حين» فانقلب منه المراد. والصواب كما في العَيْنِي، كَمَا يَتَّضِحُ من «مسند أحمد» رحمهم الله تعالى. والحديثُ حُجَّةٌ للشافعية، وأصرح منه ما عند البخاري في باب الصلاة قبل الغروب، ولفظه: «صَلُّوا قبل صلاة المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناسُ سنةً». اه. لأن فيه صيغةَ الأمر، وأدناها أن تُحْمَل على الاستحباب، ولأن فيه تصريحًا بصلاة المغرب بخلاف حديث الباب، فإنه إن صَدَقَ عليها، صَدَقَ بعمومه. وقد عَلِمْتَ أن التمسُّك بالعموم دائمًا عندنا ليس بذاك. وأجاب عنه الحنفية رحمهم الله تعالى: أن المرادَ من الأذانين الأذانان في الوقتين للصلاتين، فاستقام الحديث على مذهبنا أيضًا، وليس بجيدٍ عندي، لأن المراد منه هو الأذان والإِقامة تغليبًا. والحديثُ على طورهم يَصِيْرُ قليل الجدوى، فإنه أمرٌ بديهي. والصواب في الجواب ما اختاره ابن الهُمَام من التزام الإباحة، وعليه تُحْمَلُ صيغة الأمر، لأنها وَرَدَت في صلاةٍ تَضَافَرَت الروايات بتعجيلها- أعني المغربَ- وحينئذٍ يَتَبَادَرُ الذهنُ أن لا يصلِّي قبلها بصلاة، فإذن لا تكون إلا لبيان الإباحة، ورفع إبهام الحظر، لا سِيَّما إذا كان فيه لفظ: «لمن شاء»، و «كراهية أن يتخذها الناسُ سنةً». والفرق في الأحاديث بالاستحباب والسنية غير نافع. وعند أبي داود في باب الصلاة قبل المَغْرِب، عن أنس بن مالكٍ قال: «صلَّيت الركعتين قبل المغرب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: قلتُ لأنس: أرآكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: رآنا، فلم يأمرنا، ولم ينهانا». وهذا هو معنى الإباحة. وما يَحْكُمُ به الخاطر الفاتر أن الحديثَ على وجهه، هو الحديثُ العامُّ، وأراد الراوي أن يُجْرِيَ عمومه على المغرب، لأن المسألةَ عنده هكذا كانت، فأخْرَجَ المغرب من الخمس، وأدْخَلَها تحت حكم الحديث العامِّ، وركَّب منه عبارةً كما رأيت. وهذا بالحقيقة رواية المعنى، لا الرواية بالمعنى. وحاصلهُ: أن الروايةَ بالمعنى هي التي يَقْصُد بها الراوي سَرْدَ الرواية بألفاظها، فلم تَحْضُرْهُ الألفاظ، فرواها على المعنى، أي مراعيًا للألفاظ. وأمَّا رواية المعنى: فهي أن لا يَقْصُدُ سردَ الألفاظ من أول الأمر، بل يَقْصُدَ إعطاء المراد الجملي، كما يَقْصُد في المجالس العامة كالوعظ وغير ذلك، فيروي المعنى فقط إلقاءً للمراد بدون تعرُّض إلى الألفاظ. وإنما حَمَلَني على ذلك حكم الوجدان، ولأن الحديث في عامة ألفاظه لا يُوْجَدُ إلا على اللفظ العام، ولاشتراك الإسناد في الموضعين، ولنقل ابن الجوزيِّ في كتاب «الناسخ والمنسوخ»، عن الأَثْرَم تلميذ أحمد رحمه الله تعالى: أنه معلولٌ. ثم وَرَدَت في الحديث العامِّ زيادةٌ عند الدارقطني و«مسند البزار» هكذا: «بين كل أذانين صلاةٌ إلا المغرب». اه. وهو عجيبٌ، فإن استثناء المغرب يُنَاقِضُ صراحةً قوله: «صَلُّوا قبل المغرب». ولا يلتقي الأمرُ بها مع استثنائها حتى يلتقي السُهَيْل مع السُّهَا. قيل: في إسناد الاستثناء حَيَّان بن عبد الله، وقال ابن الجوزيّ: إنه كذَّابٌ، ومَرَّ عليه الزَّيْلَعِيُّ وقال: إنه اثنان: ابن عبد الله: وهو كذَّابٌ، وابن عُبَيْد الله: وهو ثقةٌ، ونقل عن البزار: أن حيان ههنا هو ابن عُبَيْد الله، وهو بصريٌّ ثقة. ومرَّ عليه السيوطي في «اللآلىء المصنوعة»، وقال: وسها ابن الجوزيِّ في حكمه بالوضع، ثم قرَّره بما مرَّ. فالروايةُ صحيحةٌ، ويقضي العجب من مثل الحافظ حيث نَقَلَ عبارةَ ابن الجوزيِّ، ولم يَنْقُل عبارةَ البزَّار، ولا وجهَ له غير أنه كان فيه نفعٌ للحنفية ولا يريده، وإلا فالحافظُ ليس غافلا عن هذه الأشياء، والله المستعان. قلتُ: ولعلَّ الحديثَ كان بدون الاستثناء، إلا أن الراوي لمَّا لم يُشَاهد بهما العمل، ألحق به الاستثناء من قِبَل نفسه، كما فعل ابن عمر رضي الله عنه، وبنى نفيه على انتفاء المشاهدة عنده. فعند أبي داود قال: «سُئِلَ ابن عمر رضي الله عنه عن الركعتين قبل المغرب، فقال: ما رأيتُ أحدًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلِّيهما»... إلخ. فليس عنده غير تلك المشاهدة، فبنى عليها النفي. وهكذا حالُ من زاد الاستثناء، فإنما زاده لأجل أنه افتقد بهما العملَ، لا أنه كان مرويًا عنده جزئيًا. وتحصَّل من المجموع: أن في الباب ثلاث روايات: الأولى: الحديث العام بدون تعرُّض إلى المغرب نفيًا وإثباتًا، والثاني: الأمر بها جزئيًا، والثالث: استثناؤها عن الخمس. والذي يَدُور بالبال- وإن لم يكن له بال- أن الحديثَ المرفوعَ هو الحديثُ العامُّ، ثم من كان مذهبُهُ الصلاة قبل المغرب، رواها على اللفظ الثاني على طريق رواية المعنى وبيانًا للمسألة، لا على شاكلة سَرْد الرواية. ومن استثناها عن الخمس نظر إلى الخارجِ، ولمَّا لم يَجِدْ فيه أحدًا يَعْمَلُ بهما، أَخرجهما عن الأمر بالصلاة لا محالة، لا أن الاستثناء مرفوعٌ عنده، أَلا تَرَى أن ابن عمر رضي الله عنه لمَّا سُئِلَ عنهما لم يأتِ بصريح النهيِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإنما نفاهما بناءً على مشاهدته وفُقْدَان العمل، هكذا فليفهم حال الاستثناء. ثم لم يَذْكُر راوٍ من رواة هذه الرواية أن واحدًا منهم كان يعمل بهما. وهذا يحقِّق أن من صلَّى بهما، فقد عَمِلَ بألفاظ الحديث، ومن تَرَكَهُمَا، فقد نَظَرَ إلى المشاهدة وبالجملة إن مذهب الإمام هو المذهبُ المنصورُ، وإليه ذهب الجمهور، كما صرَّح به النووي. ثم إنه مع التصريح بعمل الخلفاء الأربعة وغيرهم على الترك، أراد أن يَرُدَّ على أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فلينظر هل يُنَاسب هذا بعد ذلك؟ وإن تعدلوا هو أَقْربُ للتقوى. والله المستعان. وما تحصَّل عندي: أنهما قد عُمِلَ بهما في زمنٍ، ثم انتهى العملُ بالترك، كما مرَّ عن ابن عمر رضي الله عنه. وعند النسائي في باب الرخصة في الصلاة قبل المغرب: «أنَّ أبا تميم الجَيْشَانِيَّ قام لِيَرْكَعَ ركعتين قبل المغرب، فقلتُ لِعُقْبَةَ بن عامرٍ: انظر إلى هذا، أيَّ صلاةٍ يُصَلِّي؟ فالتفتَ إليه فرآه، فقال: هذه صلاة كنا نُصَلِّيها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم . اه. فَثَبَتَ منه الجزآن، أي أنها كانت في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم انقطع بهما العمل حتى أفضى إلى الإنكار عليهما. أَلا ترى إلى قوله: «أيَّ صلاةٍ يُصَلِّي؟» كيف يَتَسَاءلُ عنها كأنه لا يَعْرِفُ أصلها. بقي عَمَلُ أبي تميم، فتلك أذواق للناس: فمنهم من لا يُحِبُّ أن يَتْرِكَ ما عُمِلَ به في عهده صلى الله عليه وسلّم مرةً، ويُوَاظِبُ عليه، ويراه مُؤَكَّدًا لنفسه. ومنهم من يُرَاعِي السُّنَّةَ الأخيرة، فالأخيرةُ وهي ما استقرَّ عليها عملُه صلى الله عليه وسلّم وعَمِلَ بها أصحابُهُ صلى الله عليه وسلّم بعده، وقد عُرِفَ من أمر أصحابه رضي الله عنهم ما نبَّهناك عليه، أَلا تَرَى أن أبا مَحْذُوْرَة لم يَجِزَّ ناصيته بعدما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم مَسَحَ عليها، ومثله في الصحابة رضي الله عنهم كثيرٌ، وقد مرَّ منا مثله عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه مع عمر في الركعتين بعد العصر. وبالجملة: المسائل إنما تُؤْخَذُ من الأمر والنهي، لا من أذواق الناس، وإن للناس فيما يَعْشَقُون مذاهب.
يعني من جَلَسَ في بيته ينتظر الإقامة، فهل يُسَوَّغُ له ذلك؟ 626- قوله: (سَكَتَ المُؤذِّنُ بالأُولَى)، إنما سمَّاه بالأولى باعتبار الإِقامة، وليس بناؤه على تكرار الأذان، لأنه قد تحقَّق عندنا: أن التكرارَ لم يكن مستمرًّا، وإن عُمِلَ به في زمانٍ. 626- (قوله:) (ثم اضْطَجَع على شِقِّهِ الأيمن حتى يأتيهِ المُؤَذِّنُ للإِقامة)، وهذا نوعٌ آخر من الانتظار، فلا يتمسَّك منه أحدٌ على أنه صلى الله عليه وسلّم كان يَجْلِسُ في بيته، ثم يَخْرُجُ إذا سَمِعَ الإِقامَةَ. وعند أبي داود، عن ابن عمر رضي الله عنه: «إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرتين مرتين»، إلى أن قال: «فإذا سَمِعْنَا الإِقَامَة توضَّأنا، ثم خَرَجْنَا إلى الصلاة». اه. وما بلغتُ كُنْهَ مراده، ولعلَّه وَقَعَ فيه نقصٌ في التعبير ولا بدَّ، وإلا لَمْ يُعْرَف ذلك من حال الصحابة رضي الله عنهم.
أطلق في هذه الترجمة، ولم يسمِّ المغرب، ثم لمَّا ترجم عليه في النوافل صرَّح بالمغرب، كما عَلِمْتَ مفصَّلا.
قوله: (مُؤَذِّنٌ واحدٌ). كلامُ الحافظ ههنا مشوَّشٌ، ولعلَّه فَهِمَ أن في عبارته قُصُورًا، لأنه ترجم أولا بتعدُّد الأذانين، ولمَّا أراد أن يُتَرْجِمَ على الأذان الواحد انتقل من حال الأذان إلى المُؤَذِّن، وقال: «مُؤَذِّنٌ واحدٌ»- فكان الأحسن أن يقولَ: «لِيُؤَذِّنْ في السفر أذانًا واحدًا»، لِتَّسِقَ نظمُ التراجم- مع أن كون المؤذِّن واحدًا لا يُوْجِبُ كون الأذان أيضًا واحدًا لِيَثْبُتَ مطلوبُهُ، لأنه يَجُوز أن يؤذِّنَ المُؤَذِّنُ الواحدُ آذانًا عديدةً، والمقصود هو الأذان الواحد. أقول: وبناءُ ترجمته على أن المُؤَذِّنَ الواحدَ لا يُؤَذِّنُ إلا واحدًا، ولذا اختار الشافعيُّ رحمه الله تعالى تعدُّد المؤذِّنين عند تعدُّد الأذان. فالمؤذِّنُ الواحدُ لا يُؤَذِّنُ إلا أذانًا واحدًا، والأذانُ المتعدِّدُ لا يكون إلا من المؤذِّن كذلك. وحينئذٍ إذا كان في السفر مؤذِّنٌ واحدٌ يكون الأذان أيضًا واحدًا، المصنفُ رحمه الله تعالى في باب الجمعة، فبَوَّب بالمؤذِّن الواحد يوم الجمعة، وعبَّر عن الأذان الواحد بالمؤذِّن الواحد، وهذا دليلٌ على أن المؤذِّنَ الواحدَ لا يُؤَذِّنُ عنده إلا أذانًا واحدًا، والله تعالى أعلم. 628- (قوله:) (أَتَيْتُ النَّبِيَّ فِي نَفَرٍ من قومي)، وهذا الصحابي قد يقول: أتيت مع ابن عمي، ثم الراوي أيضًا يتبعه في التعبير. (فَإِذَا حَضَرَتِ الصلاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لكم أحدُكم)، والمُتَبَادَرُ منه عندي: أن أمره ذلك إنما هو عند بلوغهم إلى بلدهم، وحَمَلَهُ البُخَارِيُّ رحمه الله تعالى على السفر، وسيجيءُ بعضُ توضيحٍ في الحديث الآتي. 628- (قوله:) (ولْيَؤُمَّكُم أكبرُكم)، ومنه أُخِذَ الترتيبُ في الإِمامة، فَيَؤُمُّ الأعلمُ، ثم الأقرأُ... إلى آخره.
الأحسنُ للمسافر عندنا أن يُؤَذِّنَ وَيُقِيْمَ، فإن اكتفى بالإقامة جاز، وإن تَرَكَهما كُرِهَ، وأشار من قوله: «إذا كانوا جماعةً» إلى توسيعٍ في حق المُنْفَرِدِ. 630- (قوله:) (إذا أَنْتُما خَرْجْتُمَا فَأَذِّنَا)، وهذا في السفر قطعًا. وما مرَّ من صيغة الجمع يَحْتَمِلُ أن يكونَ في السفر، كما حَمَلَ عليه المصنِّف رحمه الله تعالى، ويَحْتَمِلُ أن يكون بعد بُلُوغهم إلى بلدهم، كما هو المُتَبَادَرُ عندي، وقد وَرَدَ في طُرُقه ما يُشِيْرُ إليهما، ومن ههنا اندفع التناقضُ بين صيغة التثنية والجمع، فإن الأُولى محمولةٌ على الطريق، والثانيةَ على بلوغهم إلى وطنهم. أو يُقَال: إنهما في السفر، إلا أن الراوي قد يُرَاعي نفسَه وابنَ عَمِّه بالتثنية، وقد يُرَاعي نفسَه مع رُفَقَائِهِ، فيأتي بالجمع، كما يَدُلُّ عليه قوله: «ونحن شَبَبَةٌ»، لأنه يُسْتَفَاد منه: أنه كان معه رُفَقَاؤُه أيضًا. ثم العجبُ من النَّسائي، حيث بوَّب عليه بما لم يَذْهَبْ إليه أحدٌ من الأمة، وهو: تعدُّد الأذان في السفر: نظرًا إلى صيغة التثنية فقط، مع أن التثنيةَ على معنى أنه ينادي به أحدُهما ويَقَعُ عن الآخر، لا أنه يُؤَذِّنُ كلٌّ منهما. فالتثنيةُ بطريق وقوعه عن أحدها أصالةً وعن الآخر حُكْمَا. ولقائلٍ أن يقولَ بمثله في الفاتحة، فإن الإمامَ يقرؤها أصالةً، وَتَقَعُ عن المقتدي حُكْمَا، فيُعَدَّان قارئين بهذا الطريق، فَصَدَقَ قوله: «لا صلاة لمن لم يقرأ»... إلخ عندنا بدون تكلُّفٍ أيضًا.
والحكمةُ في سَدِّ صِمَاخ الأذنين: أن يَحْتَبِسَ النفسُ، ويَقْوَى الصوتُ. ومن ههنا عُلِمَ أن وضعَ الإِصْبَعَيْن على الصِّمَاخين لا يكفي، بل لا بدَّ أن يُدْخِلَهُمَا فيهما، ومَنْ لم يَفْعَلْه، فقد خَالَفَ السُّنَّةَ. وفي كلام المصنِّف رحمه الله تعالى وجهان: الأول: أن يكونَ قوله: «المؤذن» مرفوعًا على أنه فاعلٌ، وهل يَلْتَفِتُ تفسيرًا له، وحينئذٍ يكون المذكورُ فيه مسألةَ التحويل عند الحَيْعَلَتَيْنِ. والثاني: أن يكونَ المؤذِّنُ مفعولا، والمعنى: هل يَتْبَعُ السامعون المؤذنَ، ويكون فاه بدلا عنه. قوله: (وهل يَلْتَفِتُ في الأذان)، لا ينبغي أن يحوِّلَ صدرَه. (قوله:) (وكان ابن عمر رضي الله عنه لا يجعل إصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ): إمَّا لأنه لم يَبْلُغْهُ الحديث، أو لكونه ليس بعزيمةٍ. (قوله:) (لا بَأْسَ أن يُؤَذِّنَ على غير وُضُوءٍ): ولنا فيه قولان: الأول: الكراهيةُ مطلقًا، وهو المختار عندي، لموافقته حديثًا فيه وإن كان إسنادُهُ ضعيفًا. والآخر: كراهةُ الإقامة فقط. وأمَّا البخاري، فإنه لمَّا وَسَّع في مسِّ المصحف، ودُخُول المسجد وأمثالهما، فكذلك في الأذان.
(وكَرِهَ ابنُ سِيرينَ أن يقولَ: فاتتنا الصلاةُ)، وهذه الكراهة من باب تهذيب الألفاظ، كإِطلاق العَتَمَةِ على العشاء، وإطلاق يَثْرِب على المدينة. ويُسْتَفَاد منه: أن فواتَ الجماعة يُعَبَّرُ بفوات الصلاة في نظر الشريعة، وعليه حُمِلَت. الاختلاف في المسبوقِ أهو قاضٍ أم مؤدٍ؟ قوله: ( صلى الله عليه وسلّم من فاتته صلاة العصر)... إلخ، أي من فاتته الجماعةُ، وهناك احتمالات أخرى أيضًا. 635- (قوله:) (فَلا تَفْعَلُوا): صلى الله عليه وسلّم ربهى مت كرو، وسيجيء عليه الكلام مبسوطًا. 635- (قوله:) (ما أَدْرَكْتُمْ فصَلُّوا)... إلخ اعلم أن ترتيبَ صلاة المَسْبُوق عندنا كترتيب صلاة الإِمام، فما يُصَلِّيه مع إمامه هو آخرُ صلاته، وما يقضيه بعده أولُ صلاته، فالمسبوقُ عندنا كالمُنْفَرِد فيما يقضي. وقال آخرون بعكسه، فترتيبُهُ عندهم كما في الحسِّ، وعبَّر عنه الشيخُ الأكبرُ رحمه الله تعالى: إن المسبوقَ عندنا قاضٍ فيما بقي، وعند آخرين مُؤَدَ فيه. وتمسَّك الحنفيةُ بلفظ الفوات والقضاء، كما في بعض الروايات: «وما فَاتَكُمْ فَاقْضُوا»، فدلَّ على أن المسبوقَ قاضٍ فيما بقي، لأن الحديثَ سمَّى أول صلاته فائتةً، ثم أمره بقضائها، فدلَّ على أنه يصلِّي على ترتيب الإمام. وتمسَّك الشافعية بلفظ: «أَتِمُّوا» والإتمام لا يكون إلا في الآخر، فكأن ما يصلِّيها مع إمامه أولها، فلا يُقَال فيما بقي إلا أنه مُتَمَّمٌ وَمُؤَدَّى فيها. قلتُ: والحقُ أنه لا تمسُّكَ فيه لهما، ومسائلُهم من باب التفقُّه. فللشافعيةِ أن يَحْمِلُوا الفواتَ على الفوات بحَسَبِ الحسِّ دون الحكم، كما جَازَ للحنفية أن يَأْخُذُوا الإتمام بحسبه. وتفصيله: إن أولَ صلاته وإن كانت فائتةً باعتبار الحسِّ والمشاهدة، لكنها لم تَفُتْهُ بِحَسَبِ الحكم عندهم، فهو قاضٍ لها في الحسِّ، ومُتَمِّمٌ في الحكم. فإن أول صلاته ليست إلا التي أدركها مع إمامه، وهذه لم تَفُتْهُ، وإنما فاتته ما هو أول صلاته باعتبار المشاهدة والحسِّ. وكذلك نقول في الإِتمام: إن المسبوقَ وإن كان في الحسِّ والمشاهدةِ مُتِمًّا لصلاته، إلا أنه قاضٍ لها في نظر الشارع، لأنه قد فاتته أول صلاته، وحينئذٍ يجري فيه الشرحان سواء بسواء. ولنا في المسألة حديثان ذكرناهما في رسالتنا «فصل الخطاب»، أحدهما: ما عند أبي داود، في الأذان: «أُحِيْلَت الصلاة ثلاث تحويلاتٍ»... إلخ، والآخر عند الترمذي غير أن في إسناده ليِّنٌ. ولتراجع كتب الأصول، فإنهم اختلفوا في أن صلاةَ المسبوقِ أداءٌ كاملٌ أو قاصرٌ، وأقاموا فيها المراتب.
ويُعْلَمُ من بعض الأحاديث أنهم كانوا يَقُومُون لها بعد تمام الإقامة، ومن بعضها أنهم كانوا يَقُومُون في خلالها، وهكذا في كُتُبنا، ويراجع له الطَّحَاويّ «حاشية الدر المختار». والمسألةُ فيه: أن الإمام إن كان خارج المسجد، ينبغي للمقتدين أن يَقُوموا لتسوية الصفوف إذا دَخَلَ في المسجد، وإن كان في المسجد، فالمعتبرُ قيامه من موضعه. وكيفما كان ليست المسألة من مسائل نفس الصلاة، بل من الآداب، فإن قَامَ أحدٌ قبله لا يكون عاصيًا. (قوله:) (فلا تقوموا حتى تَرَوْنِي): قال العلماء: إن بلالا رضي الله عنه كان يُرَاقِبُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فإذا رآه أقام. وأمَّا سائرُ الناس، فكانوا لا يَرَوْنه إلا بعد أن يَصِلَ إلى الصف. وكان المسجدُ من بيته بحيث لو خَرَج قدمُهُ منها وَقَعَ في المسجد، فكان بلالُ رضي الله عنه يُقِيمُ إذا خَرَجَ، فإذا وَصَلَ مَوْضِعَ الإِقامة وَجَدَ الصفوفَ قد سُوِّيَت، والإِقامةَ قد تمَّت. وأمَّا القيامُ قبل رؤيته فَعَدَّه عبثًا، كما قال مرةً: «ارْبَعُوا على أنفسكم، إنكم لا تَدْعُون أصمَّ ولا غائبًا»، حين رآهم يُبَالِغُون في الجهر. فليس فيه أن الجهرَ ممنوعٌ كما فَهِمَه بعضُهم، بل فيه إيذانٌ بكون جهرهم عَبَثًا، فهكذا القيام من قبل. وثم إنه إن كان بطريق المُثُول فممنوعٌ، كما عند أبي داود: «إنكم لتفعلون فِعْلَ فارس والروم مع عظمائهم». والحاصل: أن الأنفعَ القيامُ عند رؤية الإِمام، وقبله عَبَثٌ، وكان القوم في عهده صلى الله عليه وسلّم يَجْلِسُون مستقبل القبلة، فلم يكن في التسوية عُسْرٌ.
وفي «المِشكاة: «إن أبا هُرَيْرَة رضي الله عنه رَأَى رجلا خَرَجَ من المسجد بعد الأذان، فقال: أمَّا هذا، فقد عَصَى أبا القاسم صلى الله عليه وسلّم- بالمعنى- وأشار المصنِّف إلى الرخصة لذي الحاجة. وفي «البحر»: أنه يَجُوزُ لمن كان يُرِيْدُ العَوْدَ، أو كان ينتظم به أمرُ الجماعة. وهذا الذي كنتُ نَبَّهْتُك عليه: أن العمومَ قد يخصَّصُ بالرأي أيضًا، ولو ابتداءً، لأنه لمَّا وَجَدُوا الوجهَ فيه جَلِيًّا، خَصَّصُوه بالرأي. 639- (قوله:) (خرج إلينا يَنْطُفُ رأسُه ماءً). وقد مرَّ منا أنها واقعةٌ واحدة، وأن النبي صلى الله عليه وسلّم خَرَجَ فيها قبل أن يُكَبِّرَ، وأنه يَدُلُّ على جواز خروج الجُبُبِ من المسجد بدون طهارة كما في فِقْهِنَا، أو محمولٌ على أنه كان خاصةً له. ثم لمَّا كانت المساجدُ بيوتَ الأنبياء ومأواهم، حتى جَازَ لهم الدُّخُول والمُرُور فيها جُنُبًا، قُدِّرَ أن يَعْتَرِضَ عليه مثل هذه العوارض مرةً لِيُعْرَفَ منه ذلك. وههنا حاشية من المصنِّف رحمه الله تعالى في بعض النُّسَخ تَدُلُّ على مُضِيِّ تحريمته، وأنه يَجِبُ على القوم أن لا يَجْلِسُوا إن كانت التحريمةُ سَبَقَت. قلتُ: ولو سلَّمنا أن المسألةَ كانت هذه، فقد مرَّ مني عن أبي داود: أن بعضهم جَلَسُوا في تلك الواقعة، فالتزامُ سبق التحريمة مع جلوس القوم مُشْكِلٌ عنده، وقد مرَّ أيضًا: أن مسائلَ القدوة أوسعُ عنده من الكل. مسألة في كُتُب الحنفية: أن قيامَ الصبيان في خلال الصفوف مكروهٌ، ولا أدري ماذا كان السلف يفعلونه، فإن الصبيان كانوا يَحْضُرُون الجماعات في زمنهم أيضًا.
|